من الصعب وصف مواقف روسيا التاريخية  من القضايا العربية من جهة أو من الكيان الصهيوني بأنها داعمة أو مناهضة بشكل حاسم فلطالما نظرت روسيا السوفيتية للشعوب كقطع شطرنج في النضال من أجل سيادة الماركسية ,صحيح أن الاتحاد السوفيتي دعم  قيام دولة إسرائيل واعتبر ستالين أن (الصهيونية هي بمعظمها اتجاه اشتراكي وتنحدر من أوروبا الوسطى وتحمل إمكانية ثورية على مستوى المنطقة ، لكن هذا الدعم لم يطل كثيرًا وتحول الاتحاد السوفيتي عن الكيان الصهيوني منذ الخمسينات وتوجه لمساندة القضايا والحركات القومية العربية)[1].

واعتمدت القيادة السوفيتية حينها على علاقات الصداقة التي تربطها بقيادات إسرائيل التي كان يتزعمها الاشتراكيون. لكن الاتحاد السوفيتي في عام 1953م  قطع علاقته بإسرائيل في إثر انفجار قنبلة في مقرّ بعثته في (فلسطين المحتلة)، واستؤنفت بعد أشهر من العام نفسه. وفي 1967م عقب حرب الأيّام الستة، قطع الاتحاد السوفيتي علاقاته بإسرائيل مرة أخرى، ولم يتم استعاده العلاقات إلا في أواخر الثمانينات .

تحول الاتحاد السوفيتي إلى دعم الدول العربية خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م ،فدعم المطالب العربية  بانسحاب بريطانيا من مصر ومنح سوريا ولبنان الاستقلال، وشهدت الفترة من 1952م إلى 1955م مشاركة فعالة من ممثلي الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة أثناء مناقشة قضايا استقلال المغرب وتونس.

وظهر الدعم السوفيتي بشكل أكبر بعد أن أعلنت الحكومة المصرية تأميم قناة السويس في المؤتمر الذي عقد في لندن عام 1956م,وأنها ستدفع تعويضات إلى ملاك الأسهم في شركة قناة السويس،لكن الدول الغربية حاولت إرغام مصر على إعادة تسليم القناة مرة أخرى إلى فرنسا وبريطانيا، ورفض حينها وفد الاتحاد السوفيتي ودول عدم الانحياز أي خطط عدوانية على مصر، لكن فرنسا وبريطانيا واصلتا الإعداد للعدوان العسكري لكن كان للضغط السوفيتي دور في تعزيز موقف مصر وسرعة إنهاء العدوان[2].

في الستينات والسبعينات الميلادية استمر الدعم السوفيتي للحركات التحررية الشعبية العربية خاصة منظمة التحرير الفلسطينية بداية السبعينات بعد وفاة حليفها جمال عبد الناصر وتولي السادات للحكم بسياسته الموالية للغرب فبدأ الاتحاد السوفيتي البحث عن شركاء جدد لضمهم للتحالف ضد القوى الامبريالية,وهنا رغم تكرر دعم الاتحاد السوفيتي  للقضايا وللحركات القومية العربية  لكن لا يمكن أن نصفه بأنه دعم كامل وكبير، (فالسياسة السوفيتية كانت تقوم على تسليح المنظمات الفلسطينية بما يكفل عدم الاستسلام وليس الدعم الكافي للتفوق على إسرائيل ودون التدخل المباشر للدفاع عنها[3]).

في عقد الثمانينات ضعفت الدولة السوفيتية وبدأت تظهر معالم الانهيار، وأصبح العامل الاقتصادي أولوية على العامل الإيديولوجي في العلاقات الدولية على خلاف عقد الستينات والسبعينات وفي أواخر الثمانينات حين بلغ ضعف الدولة أقصى مراحله اتجه الاتحاد السوفيتي  إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وفي عام 1989م فتح الاتحاد السوفيتي باب الهجرة لإسرائيل أمام اليهود السوفييت رغم الاحتجاج العربي، فوصل عدد المهاجرين من ذلك التاريخ حتى عام 1993م إلى 450 ألف مهاجر،كما تراجعت روسيا عن موقفها في الأمم المتحدة من اعتبار الصهيونية موازية للعنصرية. وفي نهاية عقد الثمانينات أيضا وبعد انسحاب السوفييت من أفغانستان عام 1989م سعت القيادة السوفيتية إلى إرساء علاقات متبادلة مع واشنطن و التعامل بواقعية مع الأحداث في الشرق الأوسط بالتخلي عن مبدأ -عدو عدوي صديقي – وعن الدعم المؤدلج للبلدان ذات التوجه الاشتراكي فقط لكونهم يعلنون رفضهم للسياسة الأمريكية .

كان الاتحاد السوفيتي  بعيد عن المحادثات بشأن الصراع العربي الإسرائيلي إلى أن نشبت حرب الخليج الثانية، فتم فرض ضغوط من أجل تسوية متعددة الأطراف وعدم انفراد أمريكا بدور الوسيط الأوحد ، فشهد عام 1991م جولات وزير الخارجية الروسي إلى الشرق الأوسط، في ذلك الحين حرصت روسيا  الدخول في التسوية كأحد الوسطاء حتى تتجنب أي تسوية تضر بمصالحها حتى وإن كانت مشاركتها في عملية السلام  بشكل الراعي الثانوي بحيث لا تزال أمريكا الراعي الأول، ولا يمكن هنا المبالغة بأن روسيا بدخولها المفاوضات كانت راعيًا مؤيدًا للمصالح العربية ، لكن كان وجودها كراعٍ للسلام يحقق توازنًا قد يخدم القضية أحيانا .

كان موقف روسيا دائمًا في عملية السلام التأكيد على الالتزام بتنفيذ اتفاقيات السلام والحثّ على استئناف المفاوضات بين الطرفين،ورفض سياسة الاستيطان في القدس الشرقية، مع تحميل إسرائيل تعثر عملية السلام والتشديد على ضرورة محاربة الإرهاب من جميع الأطراف، والتوقف عن رمي الجانب الفلسطيني وحده  بالإرهاب[4].

وبهذا نرى أن عقد التسعينات مر بدخول روسيا كشريك في عملية السلام، وإن لم يكن وجودها أدى لتقدم عملية السلام أو دفع لمكاسب للشعب الفلسطيني، لكن يمكن القول إن روسيا حافظت على مسافة الوسيط دون الانحياز لإسرائيل.

مع دخول الألفية وخصوصًا في عام 2008م حدث تطور مهم للعلاقة الروسية الإسرائيلية وهو الأزمة الجورجية وما تحمله من الجانب غير المعلن عن دور إسرائيل وتعقيد العلاقات وانعكاسها على سياسة روسيا في الشرق الأوسط.

حيث أرسل جيش دفاع الكيان الصهيوني إلى جورجيا عشرات الخبراء العسكريين ,ولم تكن العلاقات عسكرية فقط بل منتعشة اقتصاديًّا، هذا علاوة على البعد الفكري والفلسفي، فكلا الدولتين تنظر إلى نفسهما على أنها مزروعة في وسط جغرافي وفكري غير مرحِّب بها.

في عام 2008 م أعلن رئيس وزراء إسرائيل وقف تزويد جورجيا بالسلاح حتى لا تغضب روسيا، وكان التصريح الصهيوني من وقف دعم جورجيا من أجل  إيقاف مشروع روسي يهدف للرد على ذلك بإمداد إيران وسوريا بالسلاح الروسي المتقدم ردًّا على الدعم الصهيوني لجورجيا التي تعتبرها منطقة نفوذ روسي.

وفي العام نفسه  أغسطس 2008م قامت القوات العسكرية الروسية بقصف قاعدة عسكرية تحديدًا لأنها القاعدة الجوية التي يقوم فيها خبراء جيش الدفاع الصهيوني بتطوير الطائرات الجورجية؛ وكانت الضربة رسالة مباشرة إلى الكيان الصهيوني أن روسيا على علم بالدور الصهيوني في جورجيا،هذا  ويصرح كثير من المحللين الإسرائيليين أن بيع السلاح لجورجيا حسن من موقف إسرائيل وقدرتها على الضغط على روسيا؛ لأن إسرائيل الآن تستطيع  أن تقول لروسيا إذا قمتم ببيع أسلحة هنا في الشرق الأوسط فإننا نستطيع أن نفعل الشيء نفسه في جورجيا.

وأيضًا من أسباب الوجود الصهيوني المكثف في جورجيا هو أن جورجيا  منطقة يتم تجهيزها لتكون مكانًا عند القرار بتوجيه ضربة لإيران، حيث لا يفصل جورجيا عن إيران إلا دولة أرمينيا وهي صغيرة المساحة، فالوجود المنظم لإسرائيل في جورجيا مدعوم من أمريكا؛ لاحتمال استخدامها كأداة لتنفيذ سياسات أمريكا، و قد تحصل على غنائم سياسية واقتصادية.

كذلك من أسباب اهتمام إسرائيل بجورجيا هو خط الأنابيب البحري الذي يمتد من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، ويمرّ عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا وبعدها إلى البحر المتوسط وهو الخط الوحيد الذي يربط نفط آسيا بأوروبا دون المرور عبر إيران وروسيا[5].

وبهذا يتضح أن إسرائيل بشكل عام في علاقتها مع روسيا تحرص على ألّا تفقد العلاقة الاستراتيجية مع روسيا، ولكنها تعمل بشكل غير مباشر على إعاقة عودة روسيا إلى لعب دور سياسي دولي بارز، لأن هذا لا يخدم المصالح الصهيونية التي تستفيد بشكل أكبر من الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأمريكية.

تغيرت الأوضاع بخصوص العلاقة الروسية بالكيان الصهيوني مع مستجدات الأوضاع بالمنطقة مع ثورات الربيع العربي خاصة بعد الثورة السورية، فشهدت العلاقات تقارب وتنسيق أكبر فإسرائيل ترى أن في وجود روسيا تخفيف للتهديد الذي يمثله الأسد وحلفاؤه الإيرانيون وحزب الله،وكان هذا التقارب الروسي- الإسرائيلي عملية تدريجية، كما وصف ذلك الباحث سمير رمان في دراسة عن العلاقات الروسية- الإسرائيلية قدمها عام 2017م؛ يصف موقف صناع القرار الإسرائيلي أنهم في البداية ظنوا أنّ سقوط الأسد أمر محتوم لذا نأوا بأنفسهم عن النزاع، تجنُّبًا للدخول في صراع مفتوح مع سوريا ما بعد الأسد، ولكن مع بقاء الأسد في السلطة وتزايد وجود داعش دفع الإسرائيليين إلى تغيير موقفهم والاتجاه نحو تحالف أقوى مع روسيا، لضمان السيطرة على قوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله,وبناء على هذه الحاجة الإسرائيلية لروسيا استرضت إسرائيل بوتين وقلّصت تعاونها العسكري مع جورجيا الذي بدأته بعد الغزو الروسي لأوسيتيا الجنوبية عام 2008م، ولم تُدِن إسرائيل ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014م.

كما ترى إسرائيل أن تنسيقها مع روسيا ضرورة سياسة واستراتيجية، تعتقد روسيا من جهتها أيضاً أن الانسحاب التامّ من الشرق الأوسط، كما فعلت إدارة أوباما، سيتسبب في اضطراب في المنطقة، وسيساعد في تعزيز التطرف الإسلامي، وبذلك نرى أن التعاون الأمني المتزايد بين إسرائيل وروسيا تحرّكه رغبة مشتركة في تجميد الصراع، ومحاربة الإسلام المتطرف، واستباق عدوانية إيران وحلفائها.

هذه الحاجة أدت إلى أعلى درجات التنسيق بين روسيا وإسرائيل خاصة في المجال الجوي، حيث يجري الطيران الإسرائيلي طلعات مستمرّة في الأجواء السورية بهدف السيطرة على نقل الأسلحة الحديثة من إيران إلى حزب الله اللّبناني، ومن جانب آخر فإن الطائرات الروسية المشاركة في العملية السورية، غالبًا ما تجد نفسها في الأجواء الإسرائيلية، واللافت أن هذا التنسيق يجري بشكل مباشر بدون مشاركة الولايات المتحدة والغرب والناتو.

لكن رغم وجود هذا التوافق والتنسيق لا يمكن إغفال أن تعقيدات قائمة بين البلدين ستجعل البلدين يجدان نفسهما في لحظة ما على طرفي نقيض فسياسة بوتين الإقليمية الجديدة التي تنطلق من معاداة الغرب لتجعل لروسيا ثقل إقليمي  في العالم،وتصاعد التوتر في العلاقات الروسية- الأميركية، والعلاقات الروسية- الأوروبّية سيفاقم الضغوطات على إسرائيل، وستجد إسرائيل نفسها في مآزق سياسية، ما يجبرها على إعادة النظر في علاقاتها بنظام بوتين الذي يرفع راية التحدي للغرب.

شهدنا مؤخراً ما تنبأ به المحلين السياسيين من حتمية لحظة الصدام بين روسيا وإسرائيل وانتهاء أجواء الانسجام والتنسيق وهو ما حدث  منتصف شهر أيلول الماضي بحيث سقطت طائرة روسية ومقتل طاقما المكون من 15 عسكري روسي  عن الطريق الخطأ من الجيش السوري الذي  كان يحاول صد هجوم إسرائيلي لذلك تم توجيه  الاتهام لإسرائيل بأنها خلقت أجواء خطرة أدى لوقوع الحادث كان الرد الإسرائيلي والأمريكي هو ابدا الأسف للحادث الذي تعرضت له الطائرة الروسية ووصف الوضع تحت إطار خطأ النيران الصديقة لكن روسيا متمثلة وزارة الدفاع وصفت تصرف الطيارين الإسرائيليين  بأنها تدل على  عدم المهنية  والإهمال وان تضليل إسرائيل لروسيا بمكان الغارات استفزاز إسرائيلي بمثابة تصرف عدائي لا يتوافق مع روح الشراكة الروسية الإسرائيلية

الاستفزاز الإسرائيلي لروسيا له عدة تفسيرات قد تكون سياسية أكثر من كونها عسكرية فقد تكون إسرائيل أو البعض يفسر بأنها أمريكا تريد أن تثبت عبر إسرائيل سهولة اختراق منظومة  الصواريخ الروسية وإرسال تذكير إسرائيلي أن إسرائيل موجودة ومستعدة ليس للدفاع فقط بل  للدفاع والهجوم في حال حدث أي خرق إيراني أو من أي مليشيا كحزب الله لذلك توجه إسرائيل مثل هذه الرسائل خاصة مع أي تقدم روسي في الحالة السورية أو عند اقتراب حسم أي معركة في جزء من مناطق الصراع في سوريا . تختلف التفسيرات للاعتداء الإسرائيلي وكذلك تبعا لها تتعدد التنبؤات برد الفعل الروسي ومهما اختلفت التفسيرات المؤكد انه الحدث أحرج بوتين وقد يتسبب بتزايد الغضب الداخلي الروسي خاصة مع ارتفاع عدد الضحايا من الروس ,أما ردة الفعل الروسية على الأرض كانت سريعة فبعد أقل من شهر على الحادثة تم تسليم سوريا منظومة دفاعية جديدة وتعزيز القوة الروسية وبدأت تهدأ التصريحات كعادة رد الفعل الروسي المتأني  وتحويل الحدث إلى أوراق سياسية بدأت بتزايد التسليح الروسي لسوريا والمتابع لردة الفعل السياسية الروسية لجميع ما تتعرض له من استفزاز هو الحصول على المكاسب الواقعية من الحدث تاركين للغير الاحتفال بانتصارات إعلامية مؤقتة, هذه السياسية اتبعتها روسيا منذ زمن الحقبة السوفيتية فرأيناها بعد أزمة الصواريخ الكوبية  رغم أن الظاهر وما احتفل به الإعلام الغربي هو تفكيك الصواريخ الروسية في كوبا بينما لم تخرج روسيا من الأزمة إلا بمكاسب سياسية تتمثل بضمانات أمريكية بعدم مهاجمة كوبا وتفكيك الصواريخ الأمريكية في تركيا , وبالتاريخ القريب رأينا ردة فعل روسيا على دعم الغرب لثورة أوكرانيا بالتحرك واسترجاع جزيرة القرم , من الاستفزازات العسكرية البارزة في سوريا حادث سقوط الطائرة الروسية عام 2015 م  ي تركيا حولته روسيا لمكسب حيث لم يبادر  العقل السياسي الروسي  برد فعل سريع بل عمل على نشر منظومة صواريخ جديدة وامام العالم بهدف الحماية من حوادث مشابهه .[6]



[1] تاريخ الشرق الأوسط من الأزمنة القديمة إلى اليوم – جورج قرم 2010 -شركة المطبوعات.

[2] من لنين إلى بوتين سياسة روسيا في الشرق الأوسط – ألكسي فاسيليف – أنباء روسيا.

[3] صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية – الروسية – نورهان الشيخ 1998م – مركز دراسات الوحدة العربية.

[4] صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية – الروسية – نورهان الشيخ 1998م – مركز دراسات الوحدة العربية.

[5] روسيا ومواجهة الغرب – د.باسم الخفاجي – المركز العربي للدراسات الإنسانية 2008.

[6]-  نظرية رد الفعل في السياسة الخارجية الروسية – ضياء حسون 2018 م